السرقة من سارق مغفورة

ماذا فعلت ميخال براور بصندوق بندورا الذي دفع به أ. الى بابها؟ يئير براك يصف دوائر الذنب التي يخلقها عمل براور، مجموعة غير شخصية، في مقابل حقيبة صور مسروقة، يكمن في عمقها أمل.

Advertisement

1.ثلاثة صناديق

حين أمر ابيميثيوس بندورا بعدم فتح الصندوق الذي في بيتهما، سألته بندورا: "وماذا يوجد في الصندوق؟"، فيجيب ابيميثيوس أنه لا يعرف ولكن ممنوع فتحه بالمرة. فضول بندورا يتفوّق على النهي، فتقوم بإحداث شرخ رفيع في الصندوق لتندلع منه المكاره، الأمراض، الآلام والمعاناة – جميع شرور العالم. حين يعود ابيميثيوس ويكتشف ان الصندوق فُتح ولا يمكن اعادة الشرور اليه، يري بندورا كائنا صغيرا ظل في قعر الصندوق، واسمه الأمل.1

 

unnamed-19.jpg

ميخال براور. "مجموعة غير شخصية"، إنشاء وعمل صوتي (تفصيل)
2015. تصوير: افي ليفي

 

عام 2007 تم في مكسيكو سيتي اكتشاف ثلاثة صناديق وفيها نحو 4500 صورة سالبة (نيغاتيف) مفقودة صوّرها روبرت كابا (Capa), زوجته المصورة غيردا تارو (Taro) وديفيد سيمور، الشهير بلقبه شيم (Chim)، خلال الحرب الأهلية في أسبانيا (1936-1939). احتوت الحقيبة، بين ما احتوته، صورا لفريدريك بورل غارسيا (Garcia), جندي الميليشيا الذي صوّره كابا في جبهة قرطبة لحظة مصرعه بطلقة نارية. الاكتشاف ذو الأهمية التاريخية جسّد الفجوة ما بين الرواية التي نسجها المصوّر وبين "الأشياء مثلما حدثت". فقد كشف صندوق النيغاتيفات مشهدًا متواصلا تم فيه توثيق غارسيا وهو يسقط وينهض على التوالي. ونشب جدل واسع حول صدقيّة أصالة الصورة، تواصل على مدى عدة أعوام. فالمادة المصوّرة التي وجدت في الحقيبة كشفت ملابسات موت الجندي، ويتضح منها وجود علاقة مباشرة بين صور كابا وبين موت غارسيا، ووفقًا لها تعرّض الجندي لإطلاق النار حين كان "يستعرض" موته أمام كابا. وهكذا تحول مضمون الصندوق الى لائحة اتهام وشكك مجددًا بمفهوم "الأصالة" في التصوير التوثيقي.

عام 1966 وجد أ. حقيبة صغيرة وفيها 260 صورة، في دار محاذية لدار أهله في تل أبيب. كانت هذه طباعات أصلية على ورق باهت، وفيها توثيق لأحداث مؤسسة في تاريخ دولة اسرائيل: أحداث عام 1929، هجرة "البساط السحري" (هجرة يهود اليمن للبلاد)، حرب عام 1948، وبالأساس – عشرات الصور التي توثق محاكمة أدولف أيخمان، التي جرت في القدس عام 1961. اشتملت هذه الصور على بورتريهات حميمية للمتهم، بورتريهات للقضاة والمحامين، وصور لغرفة الاعتقال وكذلك على صور لقاعة المحكمة ("بيت الشعب")، خلال إقامتها وخلال مداولات المحكمة فيها. الحقيبة كانت على ما يبدو لشخص عمل سائقًا في خدمة مكتب الصحافة الحكومي (وحملت سيارته، ويا للمفارقة، شارة الجواسيس وعنقود العنب). أ. الذي سكن مع عائلته في الدار المحاذية سرق الحقيبة في يوم ما حين لم يمكث أحد في البيت. بعد ذلك بنحو 50 عامًا، عام 2015، توجه الى ميخال براور وطلب أن يعطيها الحقيبة. فقد فكّر بأنه سيكون بوسع الفنانة "أن تفعل شيئًا بها"، لأغراضها الفنية، وبالتالي التخفيف بعض الشيء من الشعور بالذنب الذي لاحقه طيلة تلك الأعوام.

 

unnamed-1.jpg

ميخال براور. "مجموعة غير شخصية"، إنشاء وعمل صوتي (منظر تنصيب)
2015. تصوير: افي ليفي

 

2. أربعة اتهامات

تحتوي حقيبة الصور على لوائح اتهام كثيرة تخص الرواية الصهيونية والظلم الذي ألحقته. إنها تحتوي أيضًا على صور تمثل أحد أكثر أفعال الاتهام الحديث رمزية وأسطورية: محاكمة أدولف أيخمان، المسؤول الكبير في أذرع تنفيذ سياسة "الحل النهائي". من العبث تجاهل أن الخطاب الفلسفي يُخرج الى السطح اتهاما اضافيًا بخصوص هذه الصور – نقد محاكمة أيخمان كما ورد في كتاب حنه أرنت (Arendt) "أيخمان في القدس – تقرير عن تفاهة الشر". وهنا تصوغ أرنت مفهوم "تفاهة الشر"، الذي أثار سخط كثيرين بكونه اقترح النظر الى أفعال أيخمان كشر تافه، بيروقراطي، خلافًا للشر المتوحش.

نكتفي بهذا القدر عن التهمة التي في الحقيبة. لقد جُمعت كومة الصور في البداية، كما ورد أعلاه، من مكان غير معروف من قبل شخص سكن في دار مجاورة لبيت أسرة أ. لا نعرف (ولا أ. يعرف أيضًا) في أية ظروف وصلت الحقيبة الى دار الجار، لكن الاعتقاد السائد بأنها سُرقت ليس بعيدا عن المعقول. المتهم التالي هو أ.، سارق الحقيبة من بيت الجيران بدافع الفضول، وربما، الى حد ما، بدافع شعور بواجب حمل رسالة. أ. طفل يرتكب فعلا مشاغبًا وفي اللحظة نفسها يتملكه الهلع من احتمال أن الغرض الذي أخذه يتضمن وثائق تغيّر وجه التاريخ. يتبين من نص محادثته مع براور كيف فكر طيلة عدة سنوات بأنه يحتفظ بصور بمقدورها التشكيك في أو تشويش كل ما نعرفه عما حدث هنا. ويروي كذلك أن دار أهله كانت صغيرة وفيها أثاث "يشبه الخشبي" بينما كانت دار دار الجيران بالمقابل مثالا للبرجوازية الأوروبية، واسعة، "ذات صالون كبير وأثاث خشبي حقيقي". حين أفكر بهذا الطفل، الذي يعيش في قلّة الى حد ما، مقابل انكشافه على ثقافة عيش مختلفة، على الامكانيات التي تحملها الحرية الاقتصادية،  أفكر بالسرقة على انها أيضًا فعل انتقام صغير، مصادرة لغرض كعمل رمزي يدل على مشاعر حسد.

 

unnamed-25.jpg

ميخال براور. "مجموعة غير شخصية"، إنشاء وعمل صوتي (منظر تنصيب)
2015. تصوير: افي ليفي

 

شكل تنصيب عمل ميخال براور – طاولة عارية، متاحة للمشاهد وتدعوه للتأمل في الصور – يلمّح الى المشاهد بوصفه أيضًا متهمًا محتملا. المشاهد الفعّال، الذي يلمس ويتصفح، يرافقه بشكل راسخ طيلة الوقت شعور بالضيق، من كون هذا التصفح واللمس غير شرعي. وهو يقوم بهذا فيما يصغي بسماعتين على أذنيه لقصة اعتراف أ. لقد وضع أيخمان سماعات مشابهة في الحجرة الزجاجية، حين كانت الاتهامات والافادات ضده تترجَم له من العبرية الى الألمانية (الفعل الانساني، الديمقراطي المتمثل بترجمة المحكمة، كان ينطوي على مفارقة كبرى ضمن إجراء معروفة نتيجته مسبقًا. فقد تم شنق أيخمان قبل ترجمة الكلمة الأولى له بوقت طويل). استمرارًا لهذا، من المهم التذكير أيضًا بالشكل الذي تتحدث به أرنت عن البيروقراطية في كتابها. إنها تصفها كأرضية لتنمية الشر، وأيخمان كمنفّذ، كشخص مطيع يمتثل للكليشيهات. المشاهد الجالس الى طاولة الصور يتحول هو الآخر الى موظف بيروقراطي. إنه يتصفح الصور، يحاول تصنيفها رغمًا عنه. ومع ان محاولة تصنيف الصور محكومة بالفشل، كما يحاجج رولان بارت2 (Barthes)، فهي تستدعي دومًا تقسيما وتصنيفًا، رغم الفشل. المشاهد الذي يقوم بالتصنيف في عمل براور، يتحول الى طيّع ممتثل لسلطة المسلمات الفنية، وبالتالي يصبح، مرة اخرى، متهمًا.

إن توجّه أ. الى براور، والمونولوغ الذي يقدمه، ويتم بثه في المعرض، (هذه في الأصل محادثة بين اثنين، لكن المونتاج أبقى صوت أ. فقط)، هما حجرة اعتراف علمانية حديثة. الخاطئ أ. يتوجه الى براور كما لو أنها تملك القدرة على منح المغفرة. فهو يتخفف من عبء الذنب ويأمل في الخلاص. لكنْ خلافا للاعتراف المسيحي، حيث يكتمل الاجراء ضمن العلاقة بين المعترِف والكاهن (انطلاقا من فرضية أن الأخير يقفل من أجله الحساب امام الرب)، فإن أ. ينقل الخطيئة الى الأمام. إنه يضع بين يدي الفنانة الغنيمة3 ويأمل بأن تعرف الفنانة بحكمتها الفنية كيف تحسن صنعًا بحيازة الحقيبة. الحقيبة، كالذنب، تنتقل من يد الى يد، كحبة بطاطا ساخنة – لكن لا احد يعرف ما اذا كانت ساخنة في أية مرة.

3. صوت واحد، عدة صور

يتألف عمل براور من عنصرين، الأول صوتي والثاني بصري. هذا الاطار المعروف يكتسب أهمية خاصة في الحالة العينية لمجموعة فنية غير شخصية. المونولوغ المنقول عبر السماعات تم تسجيله بشكل منفصل وبجودة عالية جدًا، مما يوفر استماعًا بدرجة عالية من الحميمية. اللقاء الصوتي، عديم الصور، يشخّص على الفور بتماثل مع الاعتراف السابق بحثه هنا، لكنه يذكر أيضًا بنوع لقاء إضافي يتم فيه التشديد على الفجوة بين فضائيْ المرئي والمسموع – علاج التحليل النفسي: الحضور الصوتي للمعالَج المتكلم، بوجهه غير المرئي، والمعالِج المستمع، بصوته غير المسموع. ما يُطمح اليه في هذا اللقاء هو الوصول الى اللاواعي، وأفهمة الرضّة (والظلم والذنب في هذه الحالة). لكن المعالِج في هذه الحالة خلافا للكاهن لا يوفّر المغفرة. هذه ليست وظيفته.

 

unnamed-8.jpg

ميخال براور. "مجموعة غير شخصية"، إنشاء وعمل صوتي (منظر تنصيب)
2015. تصوير: افي ليفي

 

أفكر في براور كخبيرة متفجرات – كلمة تنطوي على معنى مزدوج بل متناقض، لأن خبير المتفجرات هو من يفكك شحنة المتفجرات، يجعلها مفككة، غير مشحونة، لكنه حين يفككها فهو يخرّبها. حين تفكك ميخال براور الشحنة بواسطة منظومات التمثيل المختلفة التي تستخدمها، وبواسطة منظومة تستند بأساسها على فعل إعادة تمثيل، فهي تكشف بالضبط هذه الازدواجية. الصور المصوّرة داخل الحقيبة المسروقة تحتوي، كما يتضح، على نسخ لصور معروفة، نشرت في سياقات مختلفة في الاعلام الاسرائيلي. المحظور الذي يبدو أننا اقتحمناه، تلك "الحقيقة" التي كانت بالنسبة الى أ. على مدى سنوات بمثابة ما يُحظر المساس به، هو اللاواعي الجماعي. ومن خلال تفكيكه، تظهر الشحنة كقنبلة زائفة وتظل امكانية انفجارها في اطار الممكن الرمزي.

إن هذا المجموع المتفرّع في عمل براور، الذي يحتوي على شخص يلاحقه الذنب، بورتريهات مجرم ضد الانسانية، وصور مظالم اقترفتها انسانية مجرمة، تتحول – بحكم طبيعة العمل – الى صورة. فعل الفن يحوّل التاريخ الى قصة، الظلم الى استعارة، والسرقة الى فعل شاعري. الفن هو الأمل الذي في قعر صندوق بندورا. ويجب تذكُّر أن الأمل موجود برفقة مكاره وشرور بشعة.

 

*العمل مجموعة غير شخصية معروضة في معرض بعنوان "نقطة التلاشي" في بيت الكرمة بحيفا. براور وضعت في هذا العمل طاولة وفوقها نسخًا لـ 260 صورة من التي كانت في الحقيبة. الى جانب الطاولة زوج سماعات يسمع من خلالها صوت أ.، الذي يسرد قصته مع دار الجيران، السرقة والمشاعر التي رافقته مقابل محتوى الحقيبة، في السنوات التي كانت بها في حيازته.

  • 1. مصدر القصة حول صندوق بندورا في كتاب هسيودوس "أنساب الآلهة"
  • 2. بارت رولان، أفكار عن التصوير، اصدار كيتر, 1980. ص 9-10 (عبري)
  • 3. غنيمة هي مصطلح يتكرر لدى براور في عدد من الأعمال وهي تبحث بواسطته أسئلة الاحتلال، القوة وبناء الذاكرة. مثلا، في معرضها "طيور مغرّدة، طيور مفترسة" الذي عرض في غاليري مجموعة متحف بيتاح تكفا للفنون عام 2015 (القيّمة: هيله كوهين شرايدنمان)، أو عملها غنيمة (2015) في معرض جماعي بالمتحف نفسه.