عرض متان ميتفوخ (مواليد 1982) في معرضه الفردي الأول كاميرا هاسلبلاد (Hasselblad) وهي مثبتة على ظهرها (ظهر الفيلم) وملصقة بمصطبة باطون تحت سطح الأرض بطابقين، في حين كانت تلتقط الأشعة المبثوثة عليها من سطح الجاليري. ولكن بدلا من إظهار الصورة التي تنقلها مرآة الانعكاس، فإن الكاميرا تتأمل بمن يتأملها ويغلق حقل الرؤية. وبهذا، فان الكينونة النافذة للآلة التي نجحت بواسطتها باكتساب الثقة في كشف المحيط الخارجي وعرضه على الملأ كصورة، يتشوش. ان فعل التشويش هذا يمنح الآلة فضاء زمنيا جديدا، يختلف عن الزمن التاريخي والظاهراتي الذي تنشط في داخله. لم يعد هذا زمن التأمل في الفضاء الخارجي الذي أنتج لها (بوصفها آلة خاصة تم إنتاجها بطلب من ناسا)، وإنما الزمن السياسي والتكنولوجي الذي يحدد لحظة ظهور كل آلة جديدة، ولحظة تحول آلة قائمة إلى عديمة الاستخدام، حين تظهر آلة جديدة، تكنولوجيا جديدة أو قضية سياسية – اقتصادية أخرى. ان الآلة التي فقدت زمنها، تحشر داخل كينونة أخرى، حيث تتواجد هناك كموضوع عديم القيمة الاستعمالية ودفنت وخُبأت في حقل آخر، هو حقل الفن المشار إليه بمصطبة الجاليري.
في الحقل الجديد الذي لم يعد ينتج صورا أو شهادات، تبني الآلة حوارًا شبكيا متخيلا مع أعمال فنية مشابهة من الماضي، مثل أعمال الريدي ميد لدى دوشان,1 ومن خلال التذكير بأعمال معاصرة إضافية تتناول مسألة القيمة الاقتصادية للعمل الفني. ان نمو الصورة الذاتية للآلة في الحقل الجديد يتم بدون خلل، بشكل جلي، على سطح عالم التمثيل الاداتي بوصفه فنا. مقابل الريدي ميد لدى دوشان، ففي عصر الصورة الرقمية (digi-image) لا مكان لأسرار أو مناطق معتمة، لسخرية أو فكاهة بشأن الآلة التي تم شلها، والتي يسأل نفسها أسئلة وجودية وثيولوجية، مثل: "هل أساوي بقيمتي قيمة إنتاجي، ام انني الآن، بما أنني مشلولة، أساوي اقل من قيمة مواد الإنتاج التي أنا مصنوع منها (مثلما كنا في الماضي غير البعيد نسمي صناديق حواسيب البي سي التي باتت عتيقة "خردة"، وملائمة للاستخدام فقط كأدوات لتثبيت الباب)؟
يوضح هذا البحث التساؤلات التي وقفت خلف المعرض برمته: ما الذي يمر في عقل الآلة، عقل الجهاز الذي بات مشلولا؟ كيف تستنطق الآلات الواحدة الأخرى؟ ما هو الترتيب الزمني، منظومة الأزمان الناتجة بواسطة النسخ وتوجيه الصورة للداخل، نحو الآلة ونحو الذاكرة المحوسبة التي تنتجها الصور؟ وبما انه يجري في الصور الرقمية نسخ سطور رياضية بحت – فمن هو (أو ربما ما هو) الجسد الذي يتذكر الصور؟
إن نقل كاميرا هاسلبلاد من مكانها المخصص في الفضاء الخارجي داخل مسبار، من موقع سكناها السامي في طرف الزمن، حيث عملت في تأمل منظومة الوجود من زاوية نظر عليا، وتثبيتها على مصطبة الطابق الأرضي في جاليري فني جنوب تل أبيب، تزيد من حدة السؤال الدوشاني – كيف تتحول الآلة، الأداة من موضوع إلى عمل فني؟ كيف تلغي نفسها (كموضوع مصنّع) وتكتسب هوية ومعنى جديدين؟ وبالأساس، من هو المؤلف، من هو المسئول عن الانتقال؟
إن الادعاء الذي يسعى ميتفوخ إلى عرضه في عمله هو: الآلات الجديدة (وليس البشر)، هي من يقود الاكتشاف وحدث التحول – آلة- حيوان (machine-becoming-animal), لو استخدمنا مفاهيم جيل ديلوز (Deleuze). بواسطة دخولها والقدرة على التماثل مع تفكير الآلة، والتنازل عن أفضليات النظرة والوعي البشريين في سيرورة التحول إلى قسم من الآلة، يتيح ميتفوخ للآلات الجديدة اكتشاف قيم وجودها المميزة. أي ان الإنسان يخلي (وليس على سبيل الافتراض فقط) مكانا في الكينونة ويسمح للآلة بالتمتع بفضاء زمني خاص بها، غير مرتبط بمشكلة الاكتظاظ الزائد للفضاء البشري. إن تراجع الفنان وانطواءه (من مصطلح reduction, الذي يترجم عادة كتقليص)، التحرر من التسلط، التملك والمعرفة الفائضة في نقطة الرؤية الإنسانية، تمنح الأداة مبنى يمكنها من موضعة نفسها كجزء من العالم الحي الذي تم إقصاؤها عنه حتى هذه اللحظة ويخلصها من وضعيتها القديمة والتاريخية في عالم الجماد.
شهد المعرض لحظة بدا فيها كل شيء ينبض في فضاء العرض وكأنه حي، ناقلا شعورا من الإيقاع الذي ينتج حدثا، وضعا تجعل فيه الصور على الجدران النظرة الإنسانية زائدة فجأة، وتستنطق الصورة المستنسخة الأخرى الماثلة في مقابلها. هذه هي اللحظة التي تنقل الصور من حالتها الجامدة إلى حالة جديدة من التحول – حيوانا". إن آلة التحول تنسب الإنسان للآلة، ولكن أيضا الآلة للإنسان، وتنتج صورة حياة جديدة لا هي بشرية ولا اداتية. إن البينية (inbetweenness) الجديدة الناشئة هنا تظهر كعلاقة بحتة، وجودها متواسط بين كمونين متوازيين. الجانب الآخر هو الإنسان المخلوق بصورة الخالق، والملزم بالمسؤولية الملقاة على عاتقه كما تجسد بلحمه ودمه وهو جسم حي، والطرف الثاني، الجماد وهو أداة عديمة الروح وعديمة الجسد ، ولذلك فليس لها وجود "بذاتها". ان الوساطة غير المنتمية للإنسان أو للآلة تظهر هنا كلحظة جوهرية تضم الحالة البينية، كوضعية وجود من نوع جديد لا تزال الفلسفة حتى الآن عاجزة عن التعاطي مع فورية ظهورها واختفاءها.
من هنا، فان السؤال الأساسي الذي يطرحه العرض هو سؤال وجود ومكانة الآلة (والصورة الرقمية هي آلة بما لا يقل عن الكاميرا نفسها) بالنسبة للإنسان المصنوع / وعلى هيئة لحم ودم. ومن هنا يطرح أيضا سؤال مكانة النظرة الظاهراتية المعلقة بالجسد وموقعها في الفضاء، مقابل النظرة الاداتية غير المتعلقة إلا بذاتها. إن النظرة الإنسانية التي تنتج الظاهرة في لحظة التأمل، وتستكمل الصورة بواسطة الأنا المتعالية، التي تضيف للصورة الفورية الذاكرة والمعرفة اللتين تم جمعهما وتخزينهما لديها في الماضي، تتراجع وتنغلق في مسألة الظهور، الذي لا يزال مبدئيا جدا للإنسان (وبالذات أكثر في عصر السّلفي). ولكن هذا كله ليس مبدئيا للأداة العمياء، كآلة ترى بواسطة المعادلة الرياضية والسطور المتراكضة في البرنامج، وهو فرق يحظى بأهمية إضافية في عصر الصورة الرقمية التي تتلمس طريقها عائدة إلى الحي الذي لا يمكنها معرفته ويتموضع في الوسط.
ان هذا البحث، الذي تبثه جدران الجاليري، يعيدنا إلى هايديغر (Heidegger) وللمفاوضات التي أجراها مع اتساع رقعة الآلة الحديثة والتحذيرات والتنبؤات القاتمة التي صاغها بخصوص تحول الإنسان إلى آلة، أداة، أو إلى قسم من صناعة مغتربة، تفصل ما بينه وبين كينونته. إن هذا الإنسان الذي ابتعد عن الطاحونة الهوائية وعلاقاته مع الأرض قد فقد علاقته ببداية الحياة ونهايتها، ما يتجسد في حضور الموت (وفقا لادعاء هايديغر مثلما الإنسان في العصر الصناعي قد صنّع الزراعة، فهكذا يقوم بتصنيع الموت).2
إن الأفكار بشأن القدرة المثبتة اليوم لنقد ونفي تفوق وحصرية الوعي البشري واستعلاء البشر على الحيوانات، قد حظيت بأهمية إضافية أواخر القرن الماضي، أيضا بفضل عمل ديلوز وجاك ديريدا (Derrida), الذين أنتجا صندوق عدة مفهومي مكّن من إعادة فحص علاقات الإنسان – الحيوان من وجهة نظر لم تكن ممكنة قبل ذلك. إن تفكيكية هذا التفكير تستحضر في المعرض توق الحي لدى الجماد، بواسطة الفضاء البيني والمصطلح الجديد إنسان-آلة، الذي ينتج علاقة مع الآلات. هذا التوق ينتمي إلى الفضاء البيني ويخرجه من الإخفاء، ولكن سرعان ما يعيد إغراقه مرة ثانية في الفضاء المتخيل الناشئ هنا. انه يضع ما هو جوهري بالنسبة لإنسان، من جهة، وللآلة، من جهة ثانية، ولكن من دون الجوهر الصادم، حين يخلي الفنان الذي شكل حتى الآن جزءا من التمثيل التاريخي مكانه للصورة الرقمية أو الإنسان-آلة، الذي ينتج صنفا جديدا من التزامن وفوق الزمنية، التي لم تكن ممكنة حتى الآن.
من اجل تأسيس فلسفة تنطق وعي الموضوع، ومتحررة من حصرية الذات الإنسانية على الوعي والوعي الذاتي يجب علينا أن نتأمل سلسلة الأعمال بعنوان "Blinds". هذه السلسلة مؤلفة من تسع طباعات تأسر العين وكبيرة الحجم (213.5X160 سم), منغلقة في ذاتها وتتأمل في الداخل. ميتفوخ يصوغ فيها الوظيفة الأخيرة، على سبيل الافتراض، والضئيلة جدا التي تبقت للإنسان نحو الآلة، ويموضعها داخل الفضاء البيني المتخيل الناشئ بالفضاء. تجد العين مكانا في وعي الجماد كأثر تمكن فجأة من إنتاج التوجه للإنسان، أي، التأشير على لحظة انقلاب الأحوال: الأعمال الموجهة افتراضا إلى التجربة الظاهراتية للتأمل من خلال العين الإنسانية، والتي تستحضر الجسد المتأمل، تعزز الشعور بان العين الإنسانية لا تعرف ما تراه، أو ما هو جوهر التجربة التي تشعر بها في تأملها الحسي والمباشر للأعمال. إن العين ونشاطها يتحولان هنا إلى حدث متقادم، ذاكرة بعيدة، في المكان الذي تنتج فيه الآلة والإنسن-آلة مفاوضات "أخرى"، تخلو من التأمل العقلاني ويغيب البحث الذي عفا عليه الزمن بمفاهيم الجميل أو السامي.
ان فكرة ظهور الإنسان الآلة تزيد من حدة النظرة المزدوجة الناشئة في المعرض، النوع الأول: نظرة النظر إلى السطح، ترفع قدرة الطابعة على فهم بُنية اللون، الضوء والصورة، فهي ليست صورة، ضوء أو لون، بل حركات وتحولات بين لغات برمجة مختلفة. النوع الثاني هو القدرة على التمييز بين الحركات واللغات وبين الأجيال الخاصة بالتعابير التكنولوجية، التي تلغي الحاجة، وربما تجعلها غائبة تماما، في علاقة "الخارجية" التي كانت لها مع ما هو، على سبيل الافتراض، مصدر الصورة. في هذه الحالة هي شاشة الآيباد وأشكال انكسارات أشعة الضوء على الزجاج الذي يغطي أضواء الليد. الأضواء المخفية في الأسفل تضيء وتعتم الشاشة بسرعة تفوق القدرة البشرية. وهكذا أيضا الذات الجديدة – الصورة – التي تجعل معظم النقاشات زائدة بشأن أخطاء منظومات الرؤية البشرية التي كانت متعلقة بالأصل بضوء "حقيقي"، مثل الأسئلة بشأن ما يمكن أو ما لا يمكن تنفيذه، الفروق بين السالب والموجب، أو بين المرسوم والمصور، وكذلك العمل على حدود صورة وأشكال حفظها الأرشيفي.
تنشأ في أعمال ميتفوخ صور جديدة للتقسيمة الحسية في الإنسان الآلة كمن عاش تجربة جمالية مع الحاسوب الذي يحول المعلومات داخل مصائد رياضية. هذه المصائد التي تلغي تماما إمكانية تحديد التجربة، تعمل فقط على المستوى الكوني، في المستوى العمومي، وتسيطر على العالم البيولوجي الرقمي. إن التقسيم الحسي الآخر للآلة لا يحتوي سوى إمكانية واحدة – الإمكانية الخاصة والمميزة للآلة وهي دائما عامة، غير جمالية وغير سياسية وليس بمقدورها معرفة الخاص – وهي محدودية تشكل أساس الخصوصية الوجودية لها.
ان الكون التصويري الذي أنتجه (Flusser) في كتابه نحو فلسفة تصوير,3 يتم إثراؤه كما يصف بـ "تجديد واحد" والذي يعتمد على "إسقاط متكرر" 4. وفقا لادعاء فلوسر فان المصور لا يصور بشكل أصيل حدثا أوليا يلاحظه في "لحظة حاسمة"، بل هو "يسقط" دائما على الكينونة صورة موجودة مسبقا في العالم وهو يقوم "بإعادة ربطها" بلحظة الحدث التصويري (ليس واضحا إن كان فلوسر يقصد صورة وعي، أسطورة أو مادة). في سيرورة إنتاج كل واحدة من الصور التسع في سلسلة ميتفوخ، ينشأ إسقاط متكرر للصورة التي تم التقاطها بكاميرا رقمية – وهي صورة تتوجه ثانية للذاكرة الافتراضية في الايباد – وتم عرضها مجددا على الشاشة.
تشتمل سيرورة عمل ميتفوخ على ثلاث دورات قامت الآلة بالتأمل ذاتيا فيها مثلما ظهر على الشاشة بانحراف 45 درجة كل مرة 5. وهكذا نشأت أجيال من الذاكرة الموثقة التي تحولت إلى الطبقات التي تظهر في نهاية الأمر من خلال الطباعة. بواسطة الإسقاط المتكرر توسع الكاميرا بُعد الوعي في الكون التصويري البيولوجي الرقمي. وبواسطة التنازل عن إنتاج معلومات أرشيفية حقيقية جديدة، من خلال تدخل الإنسان-الآلة، فإنها تحول الأسئلة التقليدية بشأن "قصد الصورة" أو سؤال "اختيار الصورة" إلى أمر زائد، وتجعلها وظائف باطلة في الفن. وهكذا تظهر هنا إيماءة جديدة، مقيدة مسبقا بما يمكن للمنظومة التصويرية الرقمية ان تقوم به. ولكن التنازل عن دعم إظهار، عرض، كشف واختيار الموضوع، هو بالذات ما يمكن الإنسان الآلة من العثور على "أوضاع جديدة" ,6 مثلما يقترح فلوسر. أي انه تظهر هنا طريقة للتأمل في الآلة وطرق عملها من الداخل – بمجمل الإمكانيات القائمة في برنامج المنظومات منذ البداية.
وهكذا يشارك المعرض في السيرورة التي تلغي الكولونيالية الطموحة والمغرورة للنظرة التي ترى الوعي الإنساني والفلسفة منظومات حصرية تقع فوق العالم الجامد والمواضيع الصامتة. وهو يقوم بهذا من خلال إنتاج خلاف مع الفلسفة الهايديغرية. الإنسان-الآلة الحاضر هنا بالمعرض، نسي الشخصي الإنساني، القديم، ولا يعاني من كينونته الجديدة في الوجود الجديد، عند تحوله إلى فائض للآلة وليس العكس. في مقابل الإطار الدوشاني "القابل للاستخدام" والمرسخ بمحور للكرسي، ويفقد بذلك قابليته على التدوير (ولكن ليست الدوران)، فمن ناحية استعارية الكاميرا المعطلة ليست معطلة تماما، ومنظومة الطباعات المغلقة على نفسها ليست مؤطرة ومحصورة في تشفيرها الذاتي. بواسطة العدسة العادية التي تكبر الصورة، ومن خلال العدسة العينية المعكوسة التي تركز الضوء، تظهر قيم استعمالية" جديدة للآلة التي تكشف "الحي" فيها – إنها تنتج حياتها بنفسها بواسطة تقسيم المعلومات التي تحتويها، تؤسس لها، تنقلها، وتشفرها مع آلات اخرى (كاميرا رقمية + ايباد +طابعة رش الحبر). ان الآلات التي تمر في فضاء لولبي تجعل العنصر الإنساني زائدا وتتفاعل الواحدة مع الأخرى إلى أن تصل بدرجة استخدام ذاتها كآلات، الى الحد الأقصى. ما يتردد صداه في هذه الصفة الاستعمالية هو قدرة الآلة على ان تكون نافذة المفعول – "ومن دونها فهي لا شيء" مثلما يكتب هايديغر – وهو مفهوم يتحول إلى عديم المعنى في البنية الكونية للآلة، التي لا يمكنها أن تخطئ .7
الآلة الفردية تتآكل (من حيث الاستخدام) وتنتهي (بواسطة الاستهلاك)؛ ولهذا يتآكل فيها تزامن الاستخدام نفسه الذي يتحول إلى اعتيادي. إن الكينونة الآلية تتآكل في الفضاء القاحل الرقمي، وتتدهور إلى درجة آلة فحسب ومن هنا تبدأ مجددا. هذا التآكل للكينونة الآلية وهو لأول وهلة تضاؤل للمفعولية، هي أيضا ما ينتجه اليوم نظام تمثيل آخر، لا يخضع لأشكال إنتاج الطمأنينة للعين والجسد الإنسانيين. إن الاعتيادية المتآكلة للآلة بالذات وتفاهة نشاطاتها "تدفع نحو الامام بوصفها النوع الوحيد للكينونة التي تميز الآلة". كما يكتب هايديغر.8 إن الآلة التي تتحول لإنسان تكشف بهذا قدرتها الجديدة على الاستعمالية البحتة، التي تثير الوهم بان مصدر الآلة هو التحويل الإبداعي الذي يرسخ صورة في المادة. لكن القلب البيولوجي الرقمي يفترض انه على الرغم مما يبدو للإنسان بأنه "اخترع" لأهدافه واستخداماته الحصرية، فلربما ان أصل الآلة ابعد من ناحية كينونتها الآلية الحقيقية، لأنه يوجد للمادة والصورة (الميتة الجامدة) مصدر أعمق. هذا المصدر يوصلنا لمعايشة استعمالية الآلة بواسطة المنتجات المترجمة للغات التي وحدها من يفهمها ويقرأها (مثل التنقل بين لغات ترجمة ألوان مختلفة تتم في منظومة الطباعة الرقمية، بين الألوان ووجودها كمناقضات داخل الصورة، التي يتم تحويلها إلى غاية عديمة الهدف في الفن).
معرض متان ميتفوخ "New Horizons"، غاليري دفير، ايلول-تشرين الأول 2015
*هذا المقال هو قسم ثالث في سلسة النصوص حول الصورة الرقمية (digi-image). ينظر:
Aim Deuelleluski, The Quotidian as Simulacra of theImage, Erev-Rav, 23.9.2013, and “Photography after the Simulacra,”,ErevRav 25.3.2014.
- 1. وخصوصًا اعمال الريدي ميد الأخيرة لدى دوشان (1925), مثل Anémic Cinéma. يربط دوشان في هذه الأعمال الريدي ميد (إطار الدراجة الهوائية، كاسحة الثلج، حوض مرحاض)، الذي تناول حركات اليد والجسد، مع العين ويقرأ حدث الألة ضمن نظام وجود جديد.
- 2. ينظر: Martin Heidegger. The Question Concerning Technology (1949)
- 3. ينظر: Flusser, Vilem (2000),TOWARDS A PHILOSOPHY OF PHOTOGRAPHY, (Translated by Anthony Mathews, REAKTION BOOKS)
- 4. يكتب فلوسر: "لو فكرنا في الكاميرا (أو المنظومة بشكل عام) بهذا الشكل، يمكننا رؤية ان ما تنتجه الكاميرا هي علامات: معالم رمزية مهندَسة وفقًا لبرنامج معيّن. الكاميرا مبرمجة إنتاج صور، وكل صورة هي تجسيد لواحدة من الامكانيات التي يشملها برنامج الكاميرا. عدد هذه الامكانيات كبير، ومع هذا فهو عدد نهائي: هذا حاصل كل الصور التي يمكن أن تلتقطها كاميرا واحدة". (المصدر السابق)
- 5. طول كل دورة هو انكشاف لخُمس ثانية، وفور تحليلها تتم اعادة شحنها على شاشة آيباد بواسطة الشبكة في سيرورة يقل زمنها عن ثلاث ثوان، بحيث أن كل وحدة تنتج خلال تسع ثوان من تحويل المعطيات وكشف الاستشعار للضوء في ثلاثة أخماس الثانية.
- 6. يكتب فلوسر: "يمكن ملاحظة التماثل نفسه بين وظيفة المصور ووظيفة الكاميرا باختيار "مواضيع التصوير". يمكن للمصور تصوير "كل شيء": وجه، قملة، آثار جزيء نووي في خلية ضبابية (خلية ويلسون)، مجرة لولبية، الفعل التصويري نفسه كما ينعكس في المرآة. عمليًا، بالمقابل، يمكنه تصوير ما يمكن تصويره مسبقا فقط، أي ما يقع في حدود برنامج الكاميرا فقط. الشيء الوحيد الذي يمكن تصويره هو أوضاع. يتوجب إذًا على المصور ترجمة كل موضوع يرغب بتصويره الى وضع. بالتالي، على الرغم من أن اختيار "الموضوع" هو اختيار حر، فهو ليس سوى فعل مشروط ببرنامج الكاميرا". ينظر Flusser, Vilem (2000)
- 7. ينظر: Heidegger, Martin. Basic Writings, "On the Origin of the Work of Art." 1st Harper Perennial Modern Thought Edition., ed. David Farrell Krell (New York: HarperCollins, 2008
- 8. في مقاله عن "الفلسفة التي توجهها مواضيع" ("Object-oriented philosophy"), يكتب غراهام هارمان (Harman) عن هايديغر ومسألة الأداة: "ولكن المكننة بمعناها لدى هايديغر، كونية. الانسان-الكينونة هي كينونة-أداة-انسان. التعاطي مع موضوع كـ"كينونة-أداة"، لا يعني أنه مستغل بشكل فظ كوسيلة فقط لتحقيق هدف، بل أنه يتمزق بواسطة المعركة الكونية بين التطبيق الهادئ للواقع كموضوع، والهالة اللامعة على سطحه الملموس. للايجاز، فالموضوع ليس "مستعملا"، بل هو هذا. ما ينجّي الجسر من كونه كومة من الحديد والأسفلت ليس حقيقة أن الناس يجدونه سهل الاستعمال وإنما حقيقة أن كل كومة لشيء ما تفعّل واقعًا ما في الكون، تحدث تغييرًا في مشهد الكينونة بطريقة مختلفة". (ترجمة غير رسمية). ينظر: http://www.beyng.com/OOP.html. ينظر أيضًا, Harman, G. (2001), Tool-Being: Heidegger and the Metaphysics of Objects (Chicago: Open Court).