أضواء الهجرة: نظرة مغايرة على باريس القديمة
في مُتحف ستيديليك (Stedelijk) في أمستردام، معرض لمجموعة "شاجال، بيكاسّو وموندريان وآخرون: فنانون مهاجرون في باريس" أماط اللثام عن تاريخ فن القرن المنصرم بعُجالةٍ سياسية لامعة. يستعرض مات هانسون (Matt Hanson) المعرض ويتناول مُنسّقُه موضوعاتٍ ذات اهتمامٍ عالميٍّ متزايد.
في بدايات القرن العشرين، كانت باريس، في كثير من النواحي، على شاكلة إسطنبول اليوم، مفترقَ طرقٍ لتفاعلات حديثة متعددة الثقافات.
الحِرَفِ الإبداعيّة، بقيادة جيل المهاجرين الأول، شرعت في الظهور للتوّ في مركز الأضواء على المسرح العالمي، على الرغم من كونها مغمورة تحت وطأة واقع الامتياز القومي.
في وقتٍ يتم فيه تمثيل موجات الهجرة الأخيرة باستمرار، على المستوى المجازي والرمزي، في عدد من الأعمال الفنيّة والمعارض عبر العالم، يمكن القول إن دمج المهاجرين وصعودهم كروّادٍ متمرسين في الثقافة المعاصرة، لا يزال حديث العهد ومثيرًا للجدل على مستوى البُنى التحتيّة المؤسّسيّة في أوروبا وتركيا. وهذا ما يجعل من معرض "شاجال، بيكاسّو وموندريان وآخرون: فنانون مهاجرون في باريس" في مُتحف ستيديليك في أمستردام، معرضًا هامًّا للغاية. لقد أماط المعرضُ اللثام عن تاريخ فن القرن المنصرم بعُجالةٍ سياسية لامعة.
تسبب مطلع القرن العشرين في موجاتٍ مصيريّة، حيث هاجر الفنانون من جميع أصقاع القارة الأوروبية لينضموا إلى صالونات ومقاهي باريس الليبرالية، والتي اشتُهرت بأضوائها الجذابة التي لم تكن كما هي في ظاهرها. فكما أوضح موريس رومينز، عضو طاقم التنسيق في متحف ستيديليك، فإن ضغوط كراهية الأجانب، والقومية المحافظة قد وجدت آذانًا صاغية حتى في الأوقات التي نعمت فيها باريس بأكثر أيامها فخرًا بالإبداع البصري والشغف الفكري.
بدأ افتتاح معرض "فنانون مهاجرون في باريس" ببيان منظم قوي: "كانت مدينة [باريس] مركز إمبراطورية استعمارية في تلك الحقبة من الزمن [النصف الأول من القرن العشرين]. مكان تشيع فيه معاداة السامية والقومية وكراهية الأجانب، على عكس بقية أوروبا. كان يتوجب على الوافدين الجدد إلى باريس التعامل مع هذا الأمور أيضًا". هذه واحدة من القضايا ذات الصلة الوثيقة بالتراث القومي الفرنسي اليوم، وتضمينه لمجتمعات المهاجرين في الماضي والحاضر، وهي المجتمعات الإسلامية، في الغالب من إفريقيا، وكذلك من الشرق الأدنى.
المجموعة الكبيرة من الأعمال الخاصة بالمتحف لمارك شاغال (1887-1985)، أحد أكثر النجوم إنتاجًا في المعرض، هي من أرشيف ستيديليك لأول مرة منذ 63 عامًا. وجد شاغال سلوانه في موضوعات رسوماته المستوحاة من تراثه اليهودي الروسي. في حين أن أعماله تُفسَّر أحيانًا على أنها نوع من التنفيس الذاتي، ويمكن اعتبارها موقفًا سياسيًا مُلحًا تبنى فيه الألم الذي تحمّله والذي وسم ووصم هُويّته الأقلّوية. متسلّحًا بإيمانٍ تقليدي، أظهر الجمال الخاص للتنوع العرقي والديني حيث استسلم معظم أقرانه لتملق الأعراف الاجتماعية الغربية باسم الحداثة العلمانية والإنسانية العالمية.
الأعمال المبكرة لشاجال في المعرض، مثل "سائق الدراجة النارية" (1922)، لشخصية كاريكاتورية سريالية توجت بنموذج سيارة ستيشن قديمة، و "شمس سوداء فوق باريس" (1952)، من مظهر المدينة الأيقونية تحت شظف السماء وكآبتها، عُلِّقَت قُبالة اللوحات التي تعبر عن جذوره، مثل لوحة شخصية ذات سبعة أصابع (1912-1913)، تظهر الكلمات "باريس" و "روسيا" بأحرف عبرية/ ييدشيّة مقابل الإطار العلوي للوحة. تطوق أسماء الأماكن الباهتة سحنة الرسام التكعيبية المجعدة، بينما ينهي لوحة قماشية رعوية ويتأمل الطبيعة المزدوجة لأشواقه الباريسية الحضرية المحاطة بدقة من خلال نافذة استوديو واقعية، مع مشهد ريفيّ روسي رعوي، كنيسة مرصعة تنحدر بشكل متناغم في حلم سحابة.
تلقى شاغال النقد والثناء رسوماته التصويريّة لكتاب أساطير الشعر الحر، من تأليف جان دي لافونتين، وهو كتابٌ محوريّ في الأدب الفرنسي. وقد ورد في نص منسّق المعرض: "عندما صوّر شاغال أساطير جين دو لا فونتين، وهو مثالٌ على التراث القومي الفرنسي، وصفته الصحافة القومية بأنه مخزٍ. يهودي أجنبي بأسلوب يشبه الفن الشعبي "يهدر" اللاتينية (اقرأ: الفرنسية) الرقّة والبراعة! وأشاد نقاد آخرون "بتأويله الجديد". ولكن، عند المضي قدمًا في معالجة المواد التي اختارها القوميون، اكتشف الفنان علاقة خاصة بين موضوعاته الشخصية وموضوعات البلد المضيف. وعلى نحوٍ مماثل، أكد متحف ستيديليك، في سياق "فنانون مهاجرون في باريس"، على الارتباط الذي كانت فرنسا ترتبط من خلاله ببقية العالم عبر تاريخ الفن، وعالق بين ثلاثة من أشهر الفنانين الذين عملوا في باريس، وهم بيكاسو، شاجال وموندريان.
حول فطائر الهلال والكرواسون
على الهلال والكرواسون
استخدم الرسام والمستشرق الفرنسي جورج كليرين (1843-1919) موهبتَه وفرشاتَه في المذهب الواقعيّ، جنبًا إلى جنب مع معرفته بالهندسة المعمارية المغربية، والتي استلهمتها زياراته إلى مصر والمغرب في خدمة جيش أمته، عشية الحرب العالمية الأولى.
تم عرض ملصق صممه للجيش الفرنسي في معرض "فنانون مهاجرون في باريس" جنبًا إلى جنب مع صورة تصور بضع عشرات من مجموع 300000 جندي تم تجنيدهم من المستعمرات الفرنسية. في الأساس، يُعد ملصق كلارين إعلانًا لتمويل الجيش الفرنسي تحت ستار المجد الاستعماري القديم، حيث يصور مشهدًا خياليًا للجنود الجزائريين والمغاربة والتونسيين يمتطون الخيل وهم يتعاركون في مبارزة بالسيوف.
الأوفسِت، الذي طبعه رالف برينز عام 1961، يروّج لعرض كوبون (قسيمة) لدعم الطلاب الجزائريين اللاجئين.
من بين الأعمال الأخيرة التي عرضتها صالة الخروج من المعرض، كانت صور فوتوغرافية التقطها المصور الهولندي المجري إيفا بيسنيو (1910-2003). أحدهما، يصور امرأة شابة من شمال إفريقيا في باريس، وضعه القيمون بجانب صورة للمستعمر الفرنسي اليميني من قبل المصور والمخرج الهولندي يوهان فان دير كوكن (1938-2001). التقطت في عامي 1952 و 1956 على التوالي، قبل وأثناء الحرب الجزائرية، والتي استمرت حتى عام 1962، وتحتوي صور بيسنيو وفان دير كوكن على نصٍّ فرعيٍّ قويّ، يؤطّر التّباين الأبيض والأسود في الجدل القومي.
يُظهر الملصق الليثوغرافي الفضي الجيلاتيني لبيسنيو، باريس (1952)، امرأة سوداء جميلة، محجوبة ومُعتّمة، لكنها محدَّدة بوضوح في ظهورها الجانبي، ووحيدة في عتمة الظلال الشجرية. قصيرة الشعر، ذات مظهر متناسق رقيق، يبرز قميصُها المخطّط خطَّها الجانبي. البيئة الطبيعية، والفتنة الأكثر تجريدية للمطبوعة، الاحتفاء الجليل باللّون الداكن، تتزامن مع التصوير الأمامي الكامل ليوهان فان كيوكن لمجموعة من السراويل الرخامية سوداء البشرة في ضوء النهار الأصلع الساطع ببدلة وربطة عنق وتحديقات تحت قوس النصر.
بعد آخر يُضيفه منسِّق معرض "فنانون مهاجرون في باريس"، هو في اللكنة التي يسلطها على التبئير السريالي في الفن الأفريقي الطقوسيّ، بوصفه أحد أهم مصادر الوحي التي تكمن خلف شحوب المركزية الأوروبية، في حين يستعرض فناني الشتات الأفريقيين الذين استعادوا تمثيل أنفسهم، من أمثال الرسامين الهايتيين الأحرار روبرت سان بريس (1898-1977) وجيسنر أبيلارد (مواليد 1922).
عمل أبيلارد (Abélard) المعروض، "غرفة الطعام" (1949)، وهو عملٌ زيتيّ على ورق مقوى، يلتزم بالمعايير الأوروبية المنضبطة في الرسم، لكنه ينبثق منها منفجرًا عبر تنويعاتٍ فنية ومخططاتٍ لونيّةٍ تتماهى تمامًا مع الأشكال المرئية الموجودة في الأطعمة والتصاميم المحليّة.
باعتبارها أول دولة تطيح بالاستعمار الفرنسي بالكامل، أصبحت هايتي نقطة الانطلاق لحركة الزّنوجة المزدهرة، وهي تأكيد شعبيّ يعتزّ بالثقافة السوداء داخل الوسط الثقافي الفرنكوفوني. كان سان بريس وأبيلارد من أبرز المؤيدين لظهورها في الفن. بالنسبة إلى "فنانون مهاجرون في باريس"، فهو ينظر إلى عمل سان برايس (1948) بوصفه اختيارًا غير عادي، حيث أن الفنان لم يعمل في باريس، ولكنه عاش، عمل ومات بين (Pétion-Ville) و (Port-au-Prince)، وهاييتي. لكن حداثته شبه الاستعاريّة والطليعية تنافس نظرائه في باريس، الذين زاروا بيئته الإبداعية في هايتي. أعماله الفنية، وعلى الرغم من كونها طبيعية وواقعية، إلا أنها مشحونة بعداء مُسبّق للاستعمار يكشف عنه شغف الفنان بطقوس الفودو، الأحلام الجليّة، عبادات الأسلاف، وهلوسة النباتات المجسّدة.
ما غفل عنه عرضُ المتحف الرئيسي هو إعادة تأكيد الحضور الإبداعي لفنانين من البلاد الإسلامية مثل تركيا وشمال إفريقيا الواقعة على أطراف أوروبا. وعلى الرغم من أن هذه البلاد وشعوبها كانت مصدر إلهام للفنانين الأوروبيين منذ القرن السادس عشر على الأقل، إلا أن الاستشراق أصبح برجوازيًا خارج الموضة مع ظهور حداثة القرن العشرين، ولا سيما في فترة ما بين الحربين العالميتين. قدم الفنانون المقيمون في باريس، وكثير منهم مهاجرون، إلى مدينة يبحثون فيها، بذوقهم الحسّي، عن المزيد من التأثيرات غير المألوفة والغريبة التي لم يتم هضمها أو استيعابها من المنظور الغربي. (أشهر مثال على ذلك هو الأصول التكعيبية في النحت الأفريقي).
في مُتحف ستيديليك، تم وضع لوحتين عاديتين جنبًا إلى جنب. لوحة بيكاسو "امرأة عارية في الحديقة" Femme nue devant le jardin (1956)، ولوحة "الجارية" Odalisque الشهيرة (1920-1921) لماتيس (Matisse)، تنقل الصداقة والتنافس المستمران بين الفنانين. عمل ماتيس بسيط ومباشر في تمثيله الخطي والتناغمي (الهارموني) مع الواقعية، مما يعرض نموذجًا رفيعًا لجمال الإنسان. في حين أن بيكاسو قد انغمس في ترسيخ نظرته التكعيبية.
كان ماتيس وبيكاسو من بين الفنانين الأوائل الذين تبنوا روح وجمالية الفن الأفريقي في مقارباتهم المعاصرة. لكن في هذه العملية، قد وضعوا أنظارهم أيضًا على فكرة مستمدة من انكشاف أوروبا على الفضاء التركي. نُقل عن بيكاسو، في دفاتر ورسائل صديقه الفنان البريطاني رولاند بنروز، قوله: "تركني لي ماتيس لوحة "الجارية"، بينما انظر هنا إلى لوحتي عن الشرق، على الرغم من أنني لم أزره من قبل". على الرغم من سمعته بأنه محاربٌ للجماليات الأيقونية، فقد عزز بيكاسو الرؤية الغربية الأيديولوجية السائدة للبلاد والثقافات والشعوب الشرقية بوصفها مواضيع يجري تأنيثها والرغبة فيها وامتلاكها.
أن تؤمن بالاختلاف
يقدم معرض "فنانون مهاجرون في باريس" ثروة من المواد الأدبية، محاطة بجهود النشر والكتابة من قبل مبدعين من كل الأطياف والمشارب. قامت إحدى مجلات Galerie Maeght واسمها "Derrière le miroir" بتوثيق معرض باريس الخارق عام 1947 للفنانة الجزائرية باية محي الدين (1931-1998)، التي اخترقت، في سن السادسة عشرة، حواجز موجات السرياليين، ولا سيما أندريه بريتون. يظهر فن باية في Galerie Maeght كسلسلة من المطبوعات الحجرية، جنبًا إلى جنب مع قصتها الأصلية.
تصدرت باية النساء في رسوماتها. وقد أظهر متحف ستيديليك احترامًا خاصًا لنشاطها الفني وعلاقتها المعقدة بإيمانها، إضافة إلى ملاحظة منسق المعرض في أسفل العمل، والمعروضة في المتحف، "كمسلمة في ثقافة تحظر، في تقليدها، تمثيل الشخوص في الفن، فهي تشكل رمزًا للتحرر".
يُظهر غلاف طبعة نوفمبر 1947 من "Derrière le miroir" لوحة لباية. الأشكال البدائية للأجساد والمنازل والنباتات، التصاميم الخاصة بالأزهار، والهواء المتقلّب لشخصيةٍ توقًا بديهيًّا في اندفاع نحو الحرية التي تاق إليها شعبها كما هي الألوان داخل عمل فني.
مجموعة "شاجال، بيكاسّو وموندريان وآخرون: فنانون مهاجرون في باريس"، مُتحف ستيديليك، 21 أيلول 2019 حتى 2 شباط 2020.