أيمن صفيّة: حجم الفراغ وسؤال الما بعد

يقدّم وسام جبران قراءة عريضة للمشروع الفنيّ للفنان الفلسطيني الراحل أيمن صفيّة. كيف يتحوّل الجسد البشريّ إلى فضاء يحكي لغة الحريّة ويجسّد فيها الرّقص اختراقًا للمألوف بكلّ تفاصيله الجريئة التي تخوض في سؤال الحريّة وتسبر غور الذات وتفككها مجيبة عن أسئلة وجوديّة جوهريّة.

 

Advertisement

حين ننظر الى سيرة الراقص الفلسطيني أيمن صفيّة، الذي فارق الحياة غرقًا بعمر التاسعة والعشرين في 24 أيار 2020، فإننا نعجز عن فهم وتيرة النشاط الذي مارسه، وحجم المنجزات التي حققها هذا الفنان الفذ في حياته القصيرة.

ولد صفية في قرية كفر ياسيف الجليلية عام 1991، ولم تتّسع بيئة النشأة المُحافظة لأحلام الراقص الجامحة، وضاقت به آفاق المكان وإمكاناته ومعارفه، فالمسافة بين الوقوف في "صفِّ الدبكة" في عُرسٍ وبين ما وصل إليه فناننا في سنينه الأخيرة، هي مسافة حنين مجرّةٍ الى انبعاثها الأول. فقد انطلق صفيّة مُجنّحًا الى التعليم والتدرب منفتحًا على لغة الرقص والموسيقى العالمية في "مدرسة رامبريت للباليه والرقص المعاصر" في لندن،1 ثم عرض على مئات المسارح الدولية، وصمم العروض الراقصة، وشارك في العشرات منها في البلاد وخارجها، مكتسبًا خبرةً كبيرة في وقتٍ قياسيّ.

لكن تجربة صفية لم تقتصر على العروض الراقصة وتصميمها، بل ولجت بوعيٍ مثابر الى خانة التربية والتعليم وتنشئة أجيال جديدة مختلفة، مُدركًا للفراغ الذي يُعاني منه مجتمعه في هذا المجال الفنيّ، فدرّس في عددٍ من معاهد الرقص المحليّة، وصمم عروضًا خاصة بالطلاب، كان أهمها عرض "بين عالمين"،2 من إنتاج مدرسة الأمل للرقص في الناصرة، تاركًا خلفه أثرًا سيشهد المستقبل تداعياته في الجيل الذي رافقه وتتلمذ وتدرب على يديه. 


أيمن.jpg

أيمن صفيّة، تمارين "عرض بيَن عالمَين"، 2019، بلُطف مدرسة الأمل، الناصرة.
أيمن صفيّة، تمارين "عرض بيَن عالمَين"، 2019، بلُطف مدرسة الأمل، الناصرة.

איימן.jpg

أيمن صفيّة، تمارين "عرض بيَن عالمَين"، 2019، بلُطف مدرسة الأمل، الناصرة.
أيمن صفيّة، تمارين "عرض بيَن عالمَين"، 2019، بلُطف مدرسة الأمل، الناصرة.

من السهل القول إن أهمية أيمن صفية تكمن في كونه أول راقصٍ فلسطينيّ يمتهن رقص الباليه الكلاسيكي والرقص الحديث، وهذا في ذاته يشكّل اختراقًا للمألوف وتجاوزًا جريئًا. لكن أهميّة صفيّة لم تقتصر على كونه البادئ في هذا المسار من بين أبناء مجتمعه وجيله، بل في الأثر الجمالي الذي تركه في نفوس جمهوره، وفي البصمة الفنيّة العميقة التي مهرها في عقول وقلوب جيل من الراقصين والراقصات، وفي البوصلة التي أشارت لهؤلاء الى طريقٍ طلائعيّ جديد غير مألوف، وهذا ما تعبر عنه إنجازاته الكثيرة في بُعدها الفني الصّرف، وفي بعدها الاجتماعي التربوي في آنٍ معًا.
لا يمكن فهم حقيقة أيمن صفيّة خارج فهم اللغة؛ لغة رقص الباليه، ولغة الرقص الحديث وما بعد الحديث التي فكّر وحلُم و"تحدّث" بها جسد الراقص. هذه اللغة من لغات الرقص، المتطورة باستطرادٍ، والتي تتطلب تدربًّا قاسيًّا ومثابرًا ومرهقًا للذهن والجسد معًا، منذ سنين الطفولة المبكرة ودون توقف؛ تدرُّبًا محاطًا برقابة المرايا التي تغطي جدران غرف التدريب المُغلقة، والتي تنزاح، مع السنين ومراكمة التدريب والخبرة، الى مرايا ذاتيّة داخليّة أكثر رقابةً وأكثر نقدًا للذات وقسوة عليها، ومترافقًا مع العرَقِ الذي يُبلّل الجسد المُحلّق بحريّةٍ عند مكوث قدم الراقص في الهواء للحظاتٍ تائهة، كما في لوحة "الأرجوحة"،3 أو عند مُشاكسة الجاذبيّة في خفّةٍ وبراءةٍ عارية، هي أشبه بخفّة الإلهة في لوحة ساندرو بوتيتشيللي "ولادة فينوس".4 يُضاف الى هذه المشقّات، مشقّة الاجحاف الاجتماعي وسطوة الأفكار المُسبَّقة الراسخة في بيئة المنشأ.
كنت حاضرًا في أكثر من عرضٍ شارك فيه أيمن صفية راقصًا ومصمّمًا، فكانت هذه العروض على تفاوتاتها، صادمة للجمهور غير المُعتاد على هذا النوع من الرقص، لكنها لا تترك مجالًا لإنكار سحر المشهد، فبراعة الأداء وعبقرية الجسد حاضرتان بقوة على خشبة المسرح، وعمق اللغة الحركيّة التعبيريّة وتماسك المشاهد والاختيارات الموسيقيّة والصوتيّة تقول ما يعجز عنه الكلام الفصيح.
لقد تميّزت عروض أيمن صفيّة الشخصيّة والطلابيّة "بلغة فنّيّة جميلة راقية، معاصرة اقتحاميّة صادمة، بلا تساهلات أو تسهيلات"،5 كما تميزت العروض الطلابية بعبقريّة العمل الجماعي المُضني الذي مكّن جيلًا من الراقصين والراقصات من "الخوض بعمق في أغوار الذات الفرديّة وتفكيكها؛ بوصفها ذوات متعدّدة متلاطمة، تعتاش على الأسئلة الصعبة، والتشكيك المرعب، والقلق الوجوديّ الّذي يرقى بالذات الإنسانيّة إلى أسمى أعماقها".6

 

safiah 1.jpg

عرض حديث الجسد، تصوير تامر مصالحة، مدرسة عايدة للرقص المعاصر، 2018
عرض حديث الجسد، تصوير تامر مصالحة، مدرسة عايدة للرقص المعاصر، 2018

safia 2.jpg

عرض حديث الجسد، تصوير تامر مصالحة، مدرسة عايدة للرقص المعاصر، 2018
عرض حديث الجسد، تصوير تامر مصالحة، مدرسة عايدة للرقص المعاصر، 2018


قبل أقل من عام على فقدان أيمن، وبعد مشاهدتي عرض "بين عالمين" في آذار 2019، كان لي حديث طويل معه، لم أفكر وقتها أنني سأحتاج الى استعادته وتوثيقه بهذه السرعة، لكنني سأمر على بعض محاوره، بقدر ما تسمح ذاكرتي:
و.ج: أنت والراقصة لينا دياب قمتما بالإشراف على مجموعة غضّة من الراقصات المتتلمذات (في مدرسة الأمل للرقص). وصلتما الى نتيجة مُذهلة، ترتقي الى العالمية (ربما ليس في براعة الأداء بعد) لكن في النتيجة النهائية المتكاملة للعمل. كان ذلك تحدٍّ كبير، أليس كذلك؟
أ.ص: معظم ما شاهدته هو من صنع الفتيات، من داخلهن ومن أعماقهن... كل ما فعلته أنا ولينا هو مساعدة هاته الفتيات على إخراج ما بداخلهن من هموم ومشاغل أولًا، ثم توجيه اللغة؛ لغة الرقص والتعبير، وحتى الكلام (وهو أحد عناصر هذا العرض).
كان عملًا جماعيًّا إذًا
هذا أجمل ما في الأمر.
و.ج: الرقص العربي (الدبكة حصرًا) هو رقص جماعي. فما الجديد؟
أ.ص: في الدبكة اللغة خطيّة واحدة متماثلة. ثمة حركات متكررة عليك أن تحفظها عن ظهر قلب وتنضبط فيها مع الجماعة. هنا أنت تتماهى مع الجماعة وحسب، تقلّدها، تنصهر فيها، فيتحدث الكلّ بصيغة المُفرد. هذا وصف عام وسريع. لكن، (وكما شاهدت وكتبت بنفسك في مقالتك) فإن اللغة هنا مختلفة، فالجماعة في "بين عالمين" تتحدث بصيغة المفرد، وترقص رقصاتٍ متعدّدة بتعدد أفرادها، لتشكّل نسيجًا متعدد الأصوات والسّرديات الحركية، فلا تماهي هنا مع الجماعة، ولا تقليد أو محاكاة؛ لكلٍّ قصّته الشخصيّة، محض الشخصيّة، حتى ولو تشابهت مع قصص الآخرين أو تقاطعت معها.
و.ج: كيف تعاملت الراقصات مع هذا الانفتاح الجريء على الذات، على مستوى المواضيع وعلى مستوى لغة الجسد؟ هل واجهت مع لينا حواجز من نوع ما؟ ربما ليس من الفتيات أنفسهن، بل من الأهالي!
أ.ص: على عكس التوقعات. في مجتمعنا طاقات هائلة، ورغبات مدفونة. كل ما ينقص هو توفر خبرات قادرة على تفجيرها وتوجيهها، ومؤسسات حاضنة وداعمة.
و.ج: والجمهور؟
أ.ص: الجمهور ذكي دائمًا. علينا أن نحترمه وألا نستغبيه. هذا كلّ شيء.
لكن التجديد صادم، خاصّة حين يتعلق الأمر بلغة الجسد
الجمهور يعتاد على كل شيء. على الفنان أن يؤمن بطريقه، يُقنع، يُثابر ويؤثر.
و.ج: ما الذي كنت ترغب بفعله ولم تفعله في هذا العرض؟
أ.ص: مزيد من التعرّي
و.ج: بأي معنى؟
أ.ص: بكل المعاني... كيف تكتب قصيدة وقلمك جافّ؟ كيف تعزف على آلتك الموسيقيّة بينما تخجل من صوتها؟ كيف ترسم دون أن تُطلق لألوانك العنان؟ الجسد في الرقص ليس أداة وحسب، بل هو اللغة ذاتها. وإن أردت أن تتكلم بحريّة مطلقة، فعليك أن تحرر لغتك بالمطلق كذلك.
و.ج: عدت من لندن، وقررت أن تكون وتعمل هنا بين أهلك وفي مجتمعك الذي نشأت فيه. هل أنت كفنان، ما زلت ترى الى نفسك كابن لهذا المجتمع أو ابن العالم الأوسع؟
أ.ص: لا أجد تعارضًا بين المكان والعالمية. فرأسي يفكر بلغة الرقص العالمية؛ بتجرّد ومهنيّة نشأت عليها. كذلك جسدي، لا أستطيع أن أربطه بحبال المكان وشروطه، لكن، العالمية لا تعني انسلاخك عن منشئك بالضرورة. أليس كذلك؟
أ.ص: إن كنت تسألني كموسيقي أو كشاعر، فالمسألة عندي مركّبة. فإن كانت شروط وحيثيات المكان تربّطك بحبالها (كما تقول)، فعليك أن تفكّك العقد وتنطلق، أو حتى تنسلخ. لما لا؟ فالقطيعة مع المكان بوصفه من الماضي خيارٌ ممكنٌ في الفن، أليس كذلك؟ لكن، استدعاء الموروث الى لغتك العالمية، هي مسألة تخضع لمعايير الإبداع التي لا حدود لها، ولا شروط مُسبقة لها كذلك. كلّ فنان منّا يفعل هذا بطريقته. فإما أن تكون مُقنعًا ومؤثّرًا، أو إنك تفشل.
و.ج: ما المشروع الذي تحلم به كراقص؟ ماذا حققت منه حتى الآن؟
أ.ص: ليس لدي حلم محدد. أحلامي تكبر معي. يقترح علي المحيط الفني أن أعمل هنا أو هناك، أن أشارك في مشروع أو ورشة أو عرض الخ... أشعر أحيانًا أن هذا يملأ وقتي ويقدم لي مسارًا أو أكثر، ويعفيني من تقرير الخيارات بمفردي، ويحقّق لي نوعًا من الاكتفاء والسعادة، فأنا أحب العمل مع الناس، وأحيانًا، أشعر أنه يُشتّتني ويُزيحني عن "الحلم" الذي يُرضيني، دون أن أعرف تمامًا ما هو، لكنني أستطيع تمييزه لو تحقق.
و.ج: هل تحقّق؟
أ.ص: لا أظن. كلّ ما فعلته حتى الآن، ربما يساهم في تشكيلي وإنضاجي، بإخفاقاتي ونجاحاتي، وربما سأكتشف يومًا، أن كل هذا كان مجرد مدرّجٍ للإقلاع، أما التحليق فلم يتحقق بعد. ربما لن يتحقق كذلك، وهذا ما يجعلنا نستمر.




لن يكون الاحتفاء بالراقص أيمن صفيّة ناجزًا، إلا بمقدار ما يُمكن للأجيال القادمة من البناء على ما أسسه، ومتابعة مساره، وترسيخ لغة الرقص في مجتمعنا، لا بوصفها لغة فنيّة امتهانية وحسب، بل بوصفها لغة تحرّر وانفتاح لا تتحقّق إلا بالتعب والتّعرّق والمثابرة. ولن يكون امتناننا له حقيقيًّا إن تركنا مروره في حياتنا مرور الطّفرة العابرة.
موت أيمن صفيّة كان حادثة، لا تستحقّ الاحتفاء بها، أما حياته فكانت صخبًا إنسانيًّا ونشاطًا فنيًّا، رسالة ومشروعاً، وهذا ما يستحق الاحتفاء الدائم، لا بتحريم الجسد، ولا بتقديسه، بل بالاعتراف به والتصالح معه كما هو.

  • 1. Rambert School of Ballet and contemporary dance.
  • 2. وسام جبران، "برزخ الذات في (بين عالمين)". موقع فسحة الثقافي، 31 آذار 2019.
    https://tinyurl.com/ybxu4c25
  • 3. Jean-Honoré Fragonard (1732 - 1806). "The Swing", The Wallace Collection is a museum in London. ("الأرجوحة"، هي لوحة زيتية فرنسية من القرن الثامن عشر).
  • 4. Sandro Botticelli, The Birth of Venus (c. 1484–1486). Tempera on canvas. 172.5 cm × 278.9 cm (67.9 in × 109.6 in). Uffizi, Florence
  • 5. وسام جبران، "برزخ الذات في "بين عالمين". (مصدر سابق).
  • 6. وسام جبران، "برزخ الذات في "بين عالمين". (مصدر سابق).